السقوف المنخفضة تشوِّه الأبنية وتمسخها حتى لو كانت قصورًا، أذكر أنّ بعض أهل الخير في قريتنا استعدوا لتحسين مبنى مسجدهم القديم فوسَّعوه وجمّلوه وفرشوه، حتى غدا جميلًا.
لكنهم لما انتهوا من عملهم قالوا: إنه جميل لكن سقفه منخفض ويذهب جماله، وكلما دخله زائر أبدى هذه الملاحظة وقال: ما أجمله، ولكن سقفه منخفض ولا حلَّ إلا برفع سقفه.
السقف المنخفض ضروري للقبـور ليستر جثامين الآدميين ويبعدها عن الأذى. وهو محمود في الكهوف القديمة لتكون مخبأ لبعض الحيوانات البرية. وهو محمود ليخفي الجند عن أعين الأعداء في الكمائن وفي الثغور.
وهو نافع لتربية الدواجن والأرانب وغيرها، السقوف المنخفضة تنفع المقاولين لتوفير بعض المال، لكنها تركة ثقيلة على من يسكن الدار، وهي ثراء على حساب الراحة.
السقوف المنخفضة لن يعيش فيها إلا قصار القامات "معنويًا"؛ لأنهم لشدة انحنائهم كادت تصل رؤوسهم الأرض. إنها تصلح للعبيد الأذلاء الذين لا يستمرئون العيش إلا في هذه البيئات. السقوف المنخفضة هي مساكن الزواحف والجرذان وأشباهها. لذا، فإن مقولة ابن الخطاب رضي الله عنه:
"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" هي النشيد الوطني المرحب به لو تمت الحرية، مع أنها لن تكون هدية من أحد في يوم من الأيام. وكذلك الحرية سقفها السماء.
والحرية هي أعظم كلمة رددها الأحرار وقدَّستها العقل الناضج.
إن الذين يظنون أن بمقدورهم إبقاء الناس في أجواء السقوف الهابطة ينضغطون ويتقاصرون حسب انخفاض السقف عليهم في التفكير والتنظير والكتابة والحديث والتعبير والمواقف، مخطئون وواهمون وهم أعداء لأوطانهم وشعوبهم ومستقبلهم وهم أسوأ أنواع الاحتلال وأخطره.
يأسف المسلم أن يبقى في بلاده اليوم من لا يزال مبتلى بهذا المرض الفتاك، وهذه الآفة الخطيرة، ويفتخر بذلك؛ وهي استعباد الناس والتدخل في انتصاب قاماتهم عالية كما خلقها الله. هل يمكن أن نطلب من النسر أن يعيش في "خم" دجاج؟
وهل يملك أن يمشي الهوينا ولا يطير محلقًا ويبحث عن حبة علف في التراب، أم يطلب من الناس أن "يستنعجوا" ليكونوا مواطنين صالحين!! وليظنوا أنهم متواضعون خاشعون؟ وقد رأى عمر الفاروق رضي الله عنه رجلًا مطأطئًا رأسه فقال له: ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمرض.
ولكن إن أصر البعض على استعباد الناس فهل يستجيبون لرغبات هؤلاء المرضى؟ واسمعوا كلام هذا الثائر الحلبي العربي الكواكبي قبل قرن ونيف: "يا قوم، جعلكم الله من المهتدين، كان أجدادكم لا ينحنون إلا ركوعًا لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعمين ولو بلقمة مغموسة بدم الإخوان، وأجدادكم ينامون الآن في قبورهم مستوين أعزاء، وأنتم أحياء معوجّة رقابكم أذلاء!
البهائم تود لو تنتصب قاماتها وأنتم من كثرة الخضوع كادت تصير أيديكم قوائم، النبات يطلب العلو وأنتم تطلبون الانخفاض، لفظتكم الأرض لتكونوا على ظهرها، وأنتم حريصون على أن تنغرسوا في جوفها، فإن كانت بطن الأرض بُغيتكم، فاصبروا قليلًا لتناموا فيها طويلًا".
رفع الله السماء حتى لا يرى أحد لها نهاية، وخلق الإنسان العاقل من بين المخلوقات معتدلًا، وكذا همته وعقله وتطلعاته وآفاقه، فلا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة.
الكاتب: محمد بن محمد سالم
المصدر: موقع مجلة المجتمع العدد 1990